صحيفة الحدث الفلسطيني 173:
الجهة السابعة ودلالات إغلاق البنية السرديّة
فراس حج محمد/ فلسطين
يعدّ الكاتب كميل أبو حنيش من أكثر كتّاب السجن نشاطاً إبداعيّاً متنوّعاً ومتدفّقاً، فقد كتب الشعر والرواية والقصّة القصيرة والمقال الأدبي والسياسي، ومارس النقد الشعري والسردي، وكتب حول الكتابة ذاتها متأمّلاً صنعتها وأسئلتها. كما أنّه ينتمي إلى جيل من الكتّاب الأسرى الذين اعتقلوا عام 2002 وما بعده (اعتقل كميل بتاريخ: 05/04/2003م)، ليشكّل مع زملاء آخرين ظاهرة من الكتّاب بسماتٍ وملامح خاصّة، تتكئُ على تجربة السجن، وتخلق منها عوالم مختلفة وتنويعات ثقافيّة متباينة في الشكل، إلّا أنّها في الجوهر وفي العمق تتمحور حول ثيمات محدّدة، لها علاقة مباشرة بعالم الأسر، ومن ذلك كتابه الموسوم بــ "الجهة السابعة".
تصدّرت الكتاب مقدّمة للناقد فيصل درّاج، ولوحة الغلاف للفنّان التشكيلي عبد الهادي شلا، وصدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في الأردنّ، وكان باكورة تعاون بين الدار وبين مبادرة "أسرى مبدعون" التي أطلقها الصديق المحامي الحيفاوي حسن عبّادي، وتمّ توقيعه في معرض عمّان الدولي للكتاب في حينه (2021)، وتمت مناقشته أيضاً في غير ندوة، ومنها الندوة الخامسة عشرة لمبادرة "أسرى يكتبون" التي كانت تُعقد في مقرّ رابطة الكتّاب الأردنيّين بمدينة عمّان، بتاريخ: 20/10/2021.
سأتجنّب وصف الكتاب بالرواية، وكان لي رأي فيها عندما عُرِضت عليّ وهي مخطوطة. لم أشجّع كميلاً على نشرها في حينه، لما فيها من إنشائيّة وذاتيّة ولغة رأيتها غير سرديّة روائيّة، أدخلها في باب التكرار أحياناً، وهذا لا يعني حكماً تقييميّاً بالجودة أو الرداءة، بل إنّ كونها كتلة سرديّة ذاتيّة المشاعر والأحاسيس خلق لها شعريّتها الخاصّة التي تجعل الناقد يتناولها ضمن هذا المحدّد السرد- ذاتيّ، لتكونَ مثالاً على الأدب الشخصيّ الأقرب إلى فنّ السيرة الذاتيّة والتأملات الذاتية.
هذا الرأي النقديّ لا يمنع من اعتبار الكتاب رواية عند من رآها كذلك، فلعلّ أصحاب هذا الرأي يرون أنّ الرواية قادرة على استيعاب كلّ أشكال الكتابة السرديّة والشعريّة والبحثيّة حتّى الصور والتشكيل الفنّيّ، ويذكر الناقد فيصل درّاج- في موضع آخر، خارج مقدّمته لكتاب كميل- أنّ لجنة جائزة الغونكور الفرنسيّة المخصّصة للرواية كانت ستمنح كلود ليفي شتراوس جائزتها على كتابه "مداريّات حزينة" لو كان الكتاب مصنّفاً على أنّه رواية (ينظر: مقدّمة مداريّات حزينة، الطبعة العربيّة، دار كنعان، 2003، ص 5). فالرواية ابتلعت كثيراً من الأجناس وطوّعتها لخدمتها، كما ظهر ذلك في روايات كثيرة، وأشار لذلك نقّاد كثيرون.
إذاً، لا يوجد للرواية شكل نهائيّ منجز محدّد ومعتمد، بل إنّ الروائيّ الجيّد- كما سبق وذكرت في مناسبات أخرى- هو من يتجاوز المألوف ليصنع شكله الروائيّ الخاصّ به، فهنا يكمن الإبداع. وجرياً وراء مفهوم الإبداع الذي يعرّف بأنّه السير على غير مثالٍ سابق، فإنّ المبدعين الحقيقيّين لا يقعون أسرى القواعد والقوالب الجاهزة، فهم من يكسر هذه القوالب لصنع قوالبهم الخاصّة بهم، وهذا ما هو منتظر منهم، ليقودوا النقّادَ إلى الحديث عن أشكال وأساليب كتابيّة مستحدثة وغير مسبوقة.
ربّما في ذهاب "الجهة السابعة" نحو شيء من الصوفيّة واللغة الشعريّة والإنشائيّة المسيطرة على لغة النصّ تقترح جماليّاتها الخاصّة بها التي لا يعيبها إن خالفت فنّيّات الرواية، ولم تتماشَ معها، وخرجت عن بعض مقرّراتها النقديّة الكلاسيكيّة.
في هذه الحالة، حالة كميل أبو حنيش، وكلّ حالة مشابهة من كتابات الأسرى، لعلّ هؤلاء الكتّاب يبحثون عن حرّيّتهم بطريقة أخرى، لغويّة إبداعيّة، فيحطّمون القواعد والأسس، ولا يسيرون عليها، ليس جهلاً منهم بتلك القواعد، بل إمعاناً منهم في إيجاد ما يجعلهم متمرّدين على واقع السجن والقيود المادّيّة، فصار التحرّر من قيود الكتابة موازياً ومعوّضاً للتحرّر من القيود المادّيّة، فيكسرون بذلك وَهْمَ الاغتراب عن الذات وعن المحيط، ليحسنوا لفت الانتباه لهم بهذه الكتابة، وعليه فإنّ السجن لم يُحدث عند هؤلاء الكتّاب حالة اغتراب إبداعيّ، بل خلق عندهم إصراراً على تجاوز المكتوب إلى آفاق أكثر حرّيّة، ربّما أكثر من الكتّاب الآخرين الذين يعيشون ويكتبون خارج دائرة الاعتقال المغلقة. وفي هذا دلالة على أنّ هذا النتاج الأدبيّ المولود في السجن وتخلّقت أعصابه ولغته من ظلام السجن ومعاناته هو ابن شرعيّ لتجربة مكتملة، يلزمها طريقة خاصّة في الكتابة، بحيث يصبح كلّ شيء متاحاً، ومباحاً في الكتابة، وله شرعيّة ما، فهم يحاولون البحث عن أفق فكريّ لغويّ فلسفيّ للحرّيّة المشتهاة. إذاً، فـ "الجهة السابعة" عمل سرديّ غير مقطوع في تصنيفه تماماً، إذ استفاد الكاتب في بنائه من عدّة تقنيات كتابيّة، طوّعها لخدمة السرد والبنية اللغويّة. فخرجت على هذه الشاكلة التي استقرّت عليها.
استند الكاتب في تسمية الكتاب "الجهة السابعة"- كما جاء في تصدير آخر الأبواب- على قول للشاعر أحمد شوقي:
ولو أنّ الجهات خلقنَ سبعاً فإنّ الموت سابعة الجهاتِ
والبيت جزء من قصيدة طويلة لشوقي يرثي فيها جدّته "تَمزار"، وكما رثى أمير الشعراء جدّته في هذه القصيدة فإنّ كميلاً أيضاً يُهدي النصّ "إلى روح الجدّة عريفة" التي وصفها بأنّها ملهمته في رحلة الحياة بأفراحها وأوجاعها، ما يعيد هذا الإهداء مرّة أخرى لبعض أبيات قصيدة شوقي حيث يقول:
خُلِقنا لِلحَياةِ وَلِلمَماتِ
وَمِن هَذَينِ كُلُّ الحادِثاتِ
هِيَ الدنيا قِتالٌ نَحنُ فيهِ
مَقاصِدُ لِلحُسامِ وَلِلقَناةِ
وَكُلُّ الناسِ مَدفوعٌ إِلَيهِ
كَما دُفِعَ الجَبانُ إِلى الثَباتِ
وعلى اختلاف بين التجربتين لدى الشاعر والسارد، وبين القصيدة الشوقيّة والنصّ السرديّ لكميل، واتّفاقهما في المسألة الشخصيّة، موت الجدّة واستحضارها، إلّا أنّ كميلاً استعار التسمية من تجربة الموت، لكنّه ليس الموت بشكله الموصوف المعرّف بخروج الروح من الجسد، كما في حادثة رثاء شوقي لجدّته، بل ثمّة موت آخر، لذلك فإنّ كميلاً لا يقف عند حرفيّة التناص مع بيت أحمد شوقي، ولا يقصد منه رثاء جدّته عريفة، بل يأخذ المعنى إلى موت آخر مختلف له صلة بتجربته الذاتيّة ومعاناته الخاصّة داخل الجدران، جدران السجن.
جاء باب الموت آخر الأبواب، مسبوقاً بباب الحبّ، وباب الحلم، وكلاهما (الحبّ والحلم) يؤشّران على معانٍ ذاتيّة أكثر ممّا يؤشّران على تجارب فلسفيّة عامّة، على الرغم من محاولة كميل أن يصعد بالذاتيّ إلى العامّ، لكنّه ظلّ أسير الذات والجدران، وهذا أمر يومئ إلى ما لتجربة السجن من أثر نفسيٍّ بالغ في نفسيّته فانعكست في الكتابة على هذا النحو.
لقد حاول كميل أن ينطلق بالحبّ من أسس صوفيّة معنويّة روحيّة غير حسيّة، فاعتمد أوّلاً في تصدير هذا الباب "باب الحبّ" على بيت شعر لأبي القاسم القشيريّ جاء خاتماً لمجموعة أبيات:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَقولُ ذَكَرْتُ إِلْفي
وَهَلْ أَنْـسَى فَأَذْكُرَ مَا نَسِيتُ
أَمُوتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا
وَلَوْلَا حُسْنُ ظَنِّي مَا حَيِيتُ
فَأَحْيَا بِالمُنَى وَأَمُوتُ شَوْقاً
فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ
شَرِبْتُ الحبّ كَأْساً بَعْدَ كَأْسٍ
فَمَا نَفِدَ الشـرابُ وَمَا رَوِيتُ
ومن اللافت للنظر في هذه الأبيات امتزاج الحبّ مع الموت في جدليّة شعريّة معنويّة لجأ إليها القشيريّ للتعبير عن حالة وجد صوفيّ، اكتفى كميل بالبيت الأخير فقط، لأنّ ثمّة باباً آخر قادماً سيخصّصه للموت. أعتقد أنّ كميلاً لم تغب عنه هذه الجدليّة ما بين الحبّ والموت المجسّدة في أبيات القشيريّ، وجسّدها هو في هذا السرد.
ما بين الحبّ وما بين الموت ثمّة حلم، ثمّة حياة أخرى، واقعة في منطقة البين بين، هي منطقة غير مسيطر عليها بالكامل، وغير ضائعة بالكامل، غير موجودة ومشخّصة وغير واقعيّة، مع أنّها- أيضاً وعلى الدرجة نفسها- ليست خياليّة، هذه المنطقة منطقة ذاتيّة جدّاً، وخاصّة جدّاً، ولغتها ذات مفردات مختلفة.
هذا البناء التجريدي المعنوي في فصول "الجهة السابعة" المعتمد على المعاني الذاتيّة والتجربة الخاصّة، بهذه الكيفية المشار إليها أعلاه استدعت أن يستحضر الكاتب خلال الكتابة "تجربة البرزخ"، فبدأ بها قبل الفصل الأوّل وذكرها ملخّصاً التجربة ببعديها النفسيّ الخاصّ والواقعيّ المعيش بقوله: "في البرزخ الأبديّ حيث تقيم، تختلط الحقيقة بالمجاز، عالم له شكل الدائرة في الزمان والمربّع في المكان". كأنّ الأمر أشبه بمنفىً، لكنّ البرزخ يأخذ التجربة إلى أبعد من كونه منفىً في الجغرافيا، إنّه منفىً في الزمن، فمن يحيا في ظروف سجن كظروف كميل، ويقع فيها تحت تأثير مؤبّدات متراكمة بعضها فوق بعض، تخلق ظلمة شبيهة بالظلمات المتراكمة في بحر لجيّ، وتصبح تجربة العيش ضمن برزخ هي التجربة الأكثر دلالة ووصفاً على واقعه الذي يحياه ويشعر به؛ فجاء النصّ سلسلة متّصلة من السرد بدأت بالبرزخ وانتهت بالبرزخ.
لا شكّ في أنّ لذلك أكثر من دلالة، وأوضح تلك الدلالات الدلالة النفسيّة؛ فالكاتب واقع تحت ظرف فُرض عليه فرضاً، مع أنّه حيّ إلّا أنّه لا يمارس حرّيّته وكامل تصرّفه، فلا يعود إلى الحياة ولا يستطيع الاندماج الكامل مع أهل تلك الحياة، يسمع عن تلك الحياة ولا يدخلها. هذا هو شعور السجين المؤبّد الذي يتطلع لما هو خارج هذا البرزخ القهريّ القسريّ. ومن ناحية أخرى عندما يتطلّع إلى ما بعد البرزخ لا يرى أفقاً ولا نوراً، ولا يرى نهاية لهذا النفق الممتدّ المظلم، يرى حاجزاً منيعاً وكثيفاً من انعدام الرؤيا والرؤية، فيظلّ قابعاً في هذه المنطقة البرزخيّة، فلا يستطيع أيضاً الانفلات والتحرّر منها بالانتقال إلى العالم الآخر؛ ليرتاح من الانتظار، ومن ألم الأحلام.
تلحّ هذه الفكرة على كميل في القصيدة، خارج السرد، إلى درجة أنّها تسيطر على منطقة اللاوعي لديه فأنطقته بالفكرة ذاتها في نصّ شعريّ بعنوان "في البعيدِ البعيد"، وجاء في هذه القصيدة قوله:
سأغدو ذهاباً
بلا أيّ مثوى
ولا أيّ حلم بأيّ إياب
إلى عالم الأمنيات
سأَمضي وحيداً
كأنّي خيال ولمّا أجيء، ولمّا أغيب
ولمّا يساور قلبي سؤال عن الأحجيات
فأيّ المرايا ستُظهر وجه الظّلال، بُعيد الرّحيل؟
هناك، وآنئذ في البعيدِ البعيد
سأمسي خواء
بلا أيّ جدوى (موقع بيت النص الإلكتروني: 3/2/2023)
وهذه الأجواء القاتمة من الشعور بالخيبة مسيطرة على كلّ سطور القصيدة، وقصائد أخرى غيرها ممّا نشره كميل في الفترة اللاحقة لنشره "الجهة السابعة"، من ذلك أيضاً ما حكاه عن الحلم في قصيدة بعنوان "يكاد يخنقني صداي":
"وأنا رؤاي... أنا رؤايْ
فما أنا في الكون
إلّا ذرّة تصبو إلى شوق
وحلم مستحيل مزهر
سيظلّ يلمع في جوايْ
فمن أنا؟" (موقع بيت النص الإلكتروني، 24/1/2023)
هذه الفكرة ذاتها ما يحكم النصّ الأكبر السرديّ "الجهة السابعة"، ولا أتجاوز الحقيقة لو قلت إنّها تحكم كلّ ما يكتبه كميل أبو حنيش، وخاصّة بعد أن تعمّقت لديه حالة الوعي بهشاشة الوضع السياسيّ الفلسطينيّ، ومعه عدد آخر من كتّاب السجن، لاسيّما أولئك الكتّاب الذين يعانون من الأحكام العالية الذين فقدوا الأمل في التحرّر، ويشعرون بأنّهم في عالم النسيان، وأنّهم يتعرضون للإهمال من المستوى السياسي الرسمي الفلسطيني والفصائلي على حدّ سواء، ما خلّف في نفوسهم هذا الحزن، وهذا اليأس.
إنّ الأسير بشكل عامّ عالق بين مكانين، في مكان أشبه بالبرزخ/ القبر؛ لأنّه يقرّبه إلى الجهة المقابلة/ الجهة السابعة (الموت)، ولا يعود به إلى الوراء؛ إلى الحياة الطبيعيّة، لذلك يسيطر على السجين في مثل هذه الحالة فكرة الموت، وهو لا ينتظر الحرّيّة وإنّما ينتظر الموت؛ ومن الهواجس ذاتها ينطلق الأسير رائد عبد الجليل ليعقد موازنة بين الزنزانة والقبر: "الزنزانة هي كالقبر من حيث الشكل والصفة فهي صغيرة وضيقة ومغلقة، بإحكام فلم تعد تعرف هل أنت تحت الأرض أم فوقها، وهي مظلمة ومعتمة رغم الإضاءة الصفراء الشاحبة التي تنشر شعوراً أكثر دماسة من الظلمة، وهي باردة تفوح من جدرانها رائحة الرطوبة والعفونة الممزوجة برائحة الخوف، ولم تكن الزنزانة تشبه القبر فقط من حيث حجم المكان ضيقه وانفصاله عن العالم وانتشار الدود والحشرات فيها التي تنهش لحمك الحي، ولكن كانت في جوهرها ومجازيتها ومعناها عبرت عن القبر، فإذا كان القبر هو عبارة عن محطة عبور ما بين الدنيا والآخرة،....، فالزنزانة هي الأخرى محطة انتقال ما بين الحرية المطلقة للجسد وما بين القيد المطلق له، وهي شيء مجهول". (رواية الحب والبندقية (مخطوطة)، ص107-108)
وبناء على ما تقدّم كله، صار أمراً منطقيّاً أن يكون عنوان الفصل الثالث "باب الموت"، والإصرار على إثبات مفردة "الباب" في الفصلين الآخرين أيضاً، لشعوره بأنّه ولج هذه الحياة من خلال تلك الأبواب اللعينة أبواب السجن القاسية المصمتة. فما الذي أجبره على أن يحبّ بهذه الطريقة أو يحلم بهذه الكيفيّة سوى دخوله البرزخ من باب الموت؟ فصار ما قبل هذه الأبواب- جغرافيّاً وزمانيّاً- مغايراً في عوالمه، فابتدأ حدّ البرزخ بهذه الأبواب.
بهذه التركيبة المعقّدة من المعاني والواقع المعيش الذي يحياه شخصيّاً ضمن هذه الظروف، يغدو الموت معادلاً موضوعيّاً للسجن، فالسجن أيضاً نوع من الموت، وليس فيه إلّا انتظار الموت. فلا أمل بمثل هذا الوضع النفسيّ الكارثيّ.
إذاً والحالة هذه، فإنّ ثمّة دائريّة متخيّلة في ذهن الكاتب عبّر عنها في المقتبس السابق في رؤيته لحياة البرزخ "عالم له شكل الدائرة في الزمن". هذه الدائريّة صارت دائرة كبرى سرديّة، فجعل السرد دائريّاً، فقد بدأ السرد بالبرزخ وانتهى به. بمعنى آخر فقد بدأ عند نقطة ما، وانتهى عند النقطة ذاتها، ما جعل البنية السرديّة مغلقة في بنائها، شبيهة بالدائرة، وهذه الكيفيّة من البناء الشكليّ للسرد تحمل مضموناً متعاضداً مع ما تمّ طرحه آنفاً، فحياة الأسير داخل المربّع الجغرافيّ/ السجن أو الزنزانة تدور في حلقة مفرغة دائريّة، فمهما طال السرد والوقت بالحبّ أو بالحلم، فلا بدّ من أن يصطدم الأسير الكاتب بالأبديّة المغلقة، فكأنّهما أصبحا عبثيّين أيضاً بلا معنىً، أو بعبارة كميل نفسه "بلا جدوى"، وهما محكومان بهذه الدائرة العبثيّة، ليعبّر عن هذه الدائريّة في نهاية الرواية تحت عنوان "البرزخ": "وها أنت تعود لبرزخ الأسر المؤبّد، تلازمك ثلاثيّة الحبّ والحلم والموت"، ويسترسل في الكتابة معبّراً عن هذه الدائريّة بلغة خاصّة؛ مخاطباً ذاته المنتظرة أن تحيا "الجهة السابعة" كما لو كانت واقعاً، وليس محض أوهام وتخيّلات.
لا شكّ في أن الكاتب أبو حنيش متأثّر فيما يطرحه عن البرزخ بنظرة الصوفيين للبرزخ، فقد أولى ابن عربي- مثلاً- أهمية للبرزخ، وكانت الفكرة حاضرة في كتبه واعتقاداته؛ جاعلاً للبرزخ مكانة ثابتة متميزة عما قبلها من عالم الشهادة، وعما بعدها من عالم الغيب، كما أن للبرزخ وظائف متصلة بالخيال، هذا الخيال الذي كان له النصيب الأكبر في باب الحبّ وفي باب الحلم في "الجهة السابعة"، وحتى باب الموت كذلك، فكأنّ النص مبني أيضا على عالم الخيال/ البرزخ، أفكاراً، ومكانَ كتابةٍ، ولغة وأسلوباً أيضاً.
من ناحية أخرى، يُعرّف البرزخ عند علماء العقيدة من المسلمين بأنّه "أوّل مشهد بعد الموت"، فلا رجوع منه بتاتاً، فهو يقرّب الميّت إلى الحياة الآخرة، ويتّخذ السجن هذه الوضعيّة ضمن هذه الحالة النفسيّة الملبّدة بالتسليم من انعدام آفاق التحرّر على المدى البعيد أو القريب، لاسيّما وهو يرى أن أسرى آخرين مكثوا أكثر من أربعين عاماً في السجن وما زالوا فيه، ومنهم من مات فيه، ولم تتحرّر جثثهم بعد؛ ما عمّق عند كميل الإحساس بالبرزخيّة الشبيهة بحياة القبور، فصار احتمال الموت أكبر من احتمال التحرّر والنجاة والعودة إلى ما قبل السجن، فيتمّ الرضوخ النفسيّ لهذه الحالة والانغلاق التامّ على الذات والانفراد بها، داخل هذا الانفراد القسريّ، كما فعل كميل الذي اعتزل داخل السجن في عزلة خاصّة اختياريّة، وكأنّه يحاول أن يصنع له قراراً خاصّاً يشعر به أنّه قادر على ممارسة إرادته كإنسان وليتغلّب على الإحساس بحياة البرزخ التي لا ترحم، ربّما هو نوع من التكيّف الإجباريّ ليستطيع أن يعيش، متصالحاً مع هذه التجربة، بعد أنْ فقد القدرة على إمكانيّة الخلاص أو كاد.
إنّ الزمن في البرزخ لا قيمة حقيقيّة له، مع أنّه كثيف وطويل، لكنّه لا يُصرَف ولا يُصرّف في أعمال ذات صبغة بشريّة حرّة، فيصبح الزمن من هذه الناحية أيضاً صفراً، وهذا ما عبّرت عنه البنية السرديّة في تحرّرها من الزمن، فالحلم لا زمن له، والزمن لا يشكّل فيه أيّ دلالة فارقة، وكذلك الموت الذي يجعل كلّ شيء- بما في ذلك الزمن- صفراً، وأمّا الحبّ والانغماس فيه، فيجعل الزمن أيضاً صفراً، بحالة ما، لاسيّما في حالة كميل كما يعبّر عنها في "الجهة السابعة"، فقد ارتبط الحبّ بالموت كما جاء في أبيات أبي القاسم القشيريّ الصوفيّ، كما بيّنت أعلاه.
وأخيراً، هل "الجهة السابعة" نصّ سرديّ عن الموت مقفل في دلالته كما هو مغلق في دائريّة بنائه السردي؟ أعتقد أوّلاً أنّ الخوف من الموت في السجن، وثانياً نسيان الأسرى داخل السجن جعلا هذا النصّ نصّاً يحذّر بطريقة سرديّة من الموت وثقل الموت، إلّا أنّه يحاول بشيء من المراوغة اللغويّة ألّا يجعل للموت سيطرة قاتمة ومصمتة ونهائيّة عليه، لذلك فإنّه يتأمّل متاهته في العين الثالثة ليراقب ولادة "الفصل الخامس" من تعاقب الفصول الأربعة، لعلّه يرى النور، نور الحرّيّة، يوماً ما، فما زال الحلم ممكناً، مع أنْ لا شيء ملموس يؤيّد الحلم ولغته وتهيّؤات أصحابه، لكنّ الأسرى- ومنهم الكتّاب- محكومون بالأمل دائماً، ولا مفرّ من هذا الأمل، ولعلّ هذا الأمل هو الذي يدفعهم دائماً للكتابة التي لا تأخذ معنى المقاومة فقط، بل معنى التجدّد وقهر احتماليّة الموت بيقينيّة بقاء الكتابة بعد أصحابها، كما قال الشاعر:
وما مِنْ كاتِبٍ إلّا سَيَفْنى وَيُبْقي الدَّهْرُ ما كَتَبَتْ يَداهُ